كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن السؤال بمن سابق فكأن موسى عليه السلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهيته تعالى غير حاصلة للبشر.
ولا يخفى ما في هذه الأدلة من القيل والقال، ومن الناس من قال: إنه كان جاهلًا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا في كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريًا نافيًا للصانع أصلًا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثر وإن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ديمقراطيس وأتباعه، ويحتمل أنه كان فلسفيًا قائلًا بالعلة الموجبة، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب.
ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال باطعة غيره، واستدل بشروعه في المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارًا شديد البطش على الشغب والسفاخة مع من يدعو إلى الحق في غاية القبح فلا ينبغي لمن يدعي الإسلام والعلم أن يرتضي لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه.
وباشتغال موسى عليه السلام بإقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد في أمثال هذا المطلب وفساد قول القائل: إن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول، وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونًا بالجواب لئلا يبقى الشك، وعلى أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}.
لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السلام في سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورًا بينا أراد أن يصرفه عليه السلام عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهمًا أن لها تعلقًا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعي بين يدي قومه نوع معرفة، فقال: {فَمَا بَالُ} إلخ.
وأصل البال الفكر يقال: خطر ببالي كذا ثم أطلق على الحال التي يعتني بها وهو المراد، ولا يثني ولا يجمع إلا شذوذًا في قولهم بالآت.
وكأن الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولًا فأخبرني ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة.
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ}.
{قَالَ} موسى عليه السلام {عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} أي إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما إنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت.
وقيل: إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، وقال النقاش: إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون {يا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب} [غافر: 30] الآية سأل عن ذلك فرد عليه السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون.
وقال بعضهم: إن السؤال مبني على قوله عليه السلام {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47].. إلخ. أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلًا كأنه قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السلام العلم إلى الله عز وجل فاندفع ما قيل: إنه لو كان المسؤول عند ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى: {والسلام} [طه: 47].. إلخ، وقيل: إنه متعلق بقوله سبحانه: {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا} [طه: 48].. إلخ. أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا، وقيل: هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير في {عِلْمُهَا} للقيامة وكلا القولين كما ترى؛ وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق وأمر.
وقيل: إنه متعلق بجواب موسى عليه السلام اعتراضًا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل؛ إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادى مدتهم وتباعد أطرافهم كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى رخر ما قص الله تعالى، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السلام: إن بين أحوالها، وقيل: إنه لالزام موسى عليه السلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده، وأيًا كان يسقط ما قيل: إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر، وقيل: إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل: إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومرله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله: {ثُمَّ هدى} [طه: 50] على التفسير الأول كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا.
وحاصل الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربي جل شأنه {فِى كتاب} الظاهر أنه خبر ثان لعلمها والخبر الأول {عِندَ رَبّى}. وجوز أن يكونا خبرًا واحدًا مثل هذا حلو حامض وأن يكون الخبر {عِندَ رَبّى}.
و{فِى كتاب} في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له. وأن يكون الخبر في كتاب {وَعِندَ رَبّى} في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل والظرف وهو يعمل متأخرًا على رأي الأخفش، وقيل: يكون حالًا من المضاف إليه في {عِلْمُهَا}، وقيل: يكون ظرفًا للظرف الثاني، وقيل: هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال: ولا يجوز أن يكون {فِى كتاب} متعلقًا بعلمها و{عِندَ رَبّى} الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره.
وأنت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكأنه عنى عليه السلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الألفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى، وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة ويكون ذلك تمثيلًا لتمكنه وتقرره في علمه عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته في جريده ولعله أولى، ويلوح إليه قوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} فإن عدم الضلال والنسيان أوفق باتقان العلم، والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الاحتياج لأن الإثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك، والإثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون، وقيل: إن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الإثبات في اللوح للاحتياج لاحتمال خطأ أو نسيان تعالى الله سبحانه عنه، وعلى الثاني تذييل لتأكيد الجملة السابقة، والمعنى لا يخطىء ربي ابتداء بأن لا يدخل شيء من الأشياء في واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطًا بالأشياء ولا يذهب عليه شيء بقاء أن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عز وجل محيط بكل شيء علمًا أزلًا وأبدًا وتفير الجملتين بما ذكر مما ذهب إليه القفال ووافقه بعض المحققين ولا يخفى حسنه. وأخرج ابن المنذر، وجماعة عن مجاهد أنهما بمعنى واحد وليس بذاك، والفعلان قيل: منزلان منزلة اللازم، وقيل: هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئًا من الأشياء ولا ينساه، وقيل: شيئًا من أحوال القرون الأولى، وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكأنه جعل السئال عن البعث وخصص لأجله المفعول وقد علمت حاله.
وعن ابن عباس أن المعنى لا يترك من كفر به حتى ينتق منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه وكأنه رضي الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال فتدبر ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة لكتاب والعائد إليه محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه، وقيل: العائد ضمير مستتر في الفعل و{رَبّى} نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربي أي عنه.
وفي {يَنسَى} ضمير عائد إليه أيضًا أي ولا ينسى الكتاب شيئًا أي لا يدعه على حد {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال، وإظهار {رَبّى} في موقع الإضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والإشعار بعلية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان حتمًا.
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي {لاَّ يَضِلُّ} بضم الياء من أضل وأضللت الشيء وضللته قيل بمعنى.
وفي الصحاح عن ابن السكيت يقال: أضللت بعيري إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدي إليه، وحكى نحوه عن الفراء وابن عيسى، وذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة وجهين جعل {رَبّى} منصوبًا على المفعولية، والمعنى لا يضل أحد ربي عن علمه وجعله فاعلًا والمعنى لا يجد ربي الكتاب ضالًا أي ضائعًا، وقرأ السلمي {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} ببناء الفعلين لما لم يسم فاعله.
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} الخ، يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز وجل وكلام موسى عليه السلام قد تم عند قوله تعالى: {وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ماقيل: مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السلام إلى قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] سئل ما أراد موسى بقوله: {رَبّى} فقال سبحانه: {هُوَ الذى جَعَلَ}.. إلخ، واختار هذا الإمام بل قال: يجب الجزم به؛ ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال: {لَكُمْ} دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح، واختار هذا الزمخشري، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا} التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز وجل، وقال: فاخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير المتكلم لأن الحاكي هو المكي عنه فمرجع الضميرين واحد، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره: وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات.
وأنكر بعضم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية، وقوله: {أَخْرَجْنَا} من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجًا من نبات شتى على ما قيل، وليس في {أَخْرَجْنَا} على هذا وما قبله التفات.
ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السلام إلى قوله تعالى: {مَاء} وما بعده كلام الله عز وجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه السلام حين الحكاية لنبينا صلى الله عليه وسلم، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفي.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي.
ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى صير أو حال إن كان بمعنى خلق، والمراد جعلها لكم كالمهد، ويجوز أن يكون باقيًا على مصدريته غير منقول لما ذكر، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة، وجوز أن يكون منصوبًا بفعل مقدر منلفظه أي مهدها مهدًا بمعنى بسطها ووطأها، والجملة حال من الفاعل أو المفعول، وقرأ كثير {مهادا} وهو على ما قال المفضل كالمهد في المصدرية والنقل.
وقال أبو عبيد: المهاد اسم والمهد مصدر، وقال بعضهم: وقال بعضهم: هو جمع مهد ككعب وكعاب، والمشهور في جمعه مهود، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي حصل لكم طرقًا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر {لَكُمْ} وذكره أولًا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار {مَاء} هو المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بذلك الماء وواسطته حيث أن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بأذن الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة.
وقيل: {بِهِ} أي عنده وإليه ذهب الإشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه فيه قوة الري مثلًا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس.
وزعموا أن من قال: إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وهو لعمري من المجازفة بمكان.
والظاهر أن يقال: فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلف للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم.
ويقوي هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللًا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه.
واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبًا عرفيًا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء.
وقال الخفاجي: لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى: {لّنُحْيِىَ بِهِ} [الفرقان: 49] ولعل هذا أقرب انتهى. وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ.
وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء} [الأنعام: 99] {أزواجا} أي أصنافًا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.
{مّن نبات} بيان وصفة لأزواجا، وكذا قوله تعالى: {شتى} أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرض وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
وقالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله.
وقوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} معمول قول محذوف وقع حالًا من ضمير {فَأَخْرَجْنَا} [طه: 53] أي أخرجنا أصناف النبات قائلين {كُلُواْ}.. إلخ. أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالًا من المفعول أي أخرجنا أزواجًا مختلفة مقولًا فيها ذلك والأول أنسب وأولى ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: رعت الدابة رعيًا ورعاها صاحبها رعاية إذا إسامها وسرحها وأراحها {إِنَّ في ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من شؤنه تعالى.
وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل: لعدم ذكر المشار إليه بلفظه.
والتنكير في قوله سبحانه {لاَيَاتٍ} للتفخيم كما وكيفما أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته {لأوْلِى النهى} جمع نهية بضم النون سمى بها العقل نهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمى بالعقل والحجر لعقله وحجره عن ذلك ويجيء النهي مفردًا بمعنى العقل كما في القاموس وهو ظاهر ما روى عن ابن عباس هنا فإنه قال: أي لذوي العقل، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: لذوي التقى ولعله تفسير باللازم.
وأجاز أبو على أن يكون مصدرًا كالهدي والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شؤنه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائدًا إليهم في الحقيقة فقال سبحانه: {كُلُواْ وارعوا} دون كلوا أنتم والأنعام.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
{مِنْهَا} أي من الأرض.
{خلقناكم} أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليًا مستتبعًا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا للكل منها، وقيل: المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بالإماتة وتفريق الأجزاء، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلي جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها {وَمِنْهَا يُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة واحد من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، وما ألطف ذكر قوله تعالى: {مِنْهَا خلقناكم}.. إلخ. بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات هذا. اهـ.